الحياة قائمة أساسا على الأخذ و العطاء ، و لايمكن أن تأخذ من الحياة من دون أن تعطي كما ، و العكس صحيح ، لايمكن أن تعطي من دون أن
تاخذ ، ومعادلة الأخذ والعطاء سارية في كل مرافق الحياة . فمثلاً إذا نظرنا إلى المصباح نرى أنه يأخذ الطاقة مقابل ما يعطيه من النور،
و لايمكن اشعال شمعة إلا أن تحرق كمية من الاوكسجين في الجو.
العطاء فقط ودائما دون أيّ أخذ ، وكأنّ النفس – كما يقولون – هي الشمعة التي تحترق لتُضيء للآخرين ، هو مُخالِف للإسلام الذي أوصي بالاهتمام
بها في قوله (ص) : ” ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ، فإن فضل عن قرابتك شيء
فهكذا وهكذا ” ( رواه مسلم ) والذي قال فيه الإمام النووي في ” شرح مسلم ” : ” في هذا الحديث فوائد ، منها : الابتداء في النفقة بالمذكور علي
هذا الترتيب ، ومنها : أنَّ الحقوق إذا تزاحَمَت ُقدِّمَ الأوْكد فالأوْكد “
ثمّ هو مُخالِف للواقع العملي ، لأنك إنْ كنتَ مثلا كئيبا فكيف ستعطي بصدق ٍسعادة حقيقية قلبية وعقلية وجسدية للآخرين ؟!
وإن كنت قاسيا فكيف تعطي شفقة ؟! وإن كنت فقيرا فكيف تعطي مالا ؟! وإن كنت سقيما فكيف تعطي جهدا ؟!
وإن كنت سفيها فكيف تعطي خبرة ؟! وإن كنت جاهلا فكيف تعطي علما ؟! وإن كنت كسولا فكيف تعطي عملا ؟! ..
وهكذا في كل شئون الحياة ، فإنك حينئذ ٍإمّا أن تتكلف مشقة كبيرة لتعطي ما لا تطيق ، وبهذا ستتعذب ولا تتمتع بعطائك وغالبا لن تطيق الاستمرار
فيه ، وإمّا أنك ستستسلم ولا تعطي !!
إنَّ توازُن الإسلام ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا ” ( البقرة : 143 ) يعني بالضرورة الجمع بين الأخذ والعطاء ، تأخذ وتعطي تلقائيا في آن ٍواحد ،
فأنت حين تعطي شيئا فإنك ولابدّ تأخذ مثله أو غيره من خير !! وهذا هو بعض ما يعنيه قوله تعالي : ” وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير
الرازقين سبأ :39 والذي قال الإمام القرطبي في تفسيره : هذه إشارة إلي الخلف في الدنيا بمثل المُنفقَ فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله
إنَّ مَنْ يريد الإيثار ، وهو تقديم الغير علي النفس رغم الحاجة ، عليه قبل فعله أن يراعي بعض شروطه وموازناته ، والتي أهمها أن يكون المُؤْثرَ
أشدّ احتياجا من المُؤْثِر فيُقدِّمه علي نفسه حبا له وسعادة بإنقاذه وعونه ليعيشا سويا هانئين ، وأن يكون قادرا عليه مُستسهلا له مُستمتعا به مُحسنا
لترتيب أولوياته واحتياجاته ، كما يُفهم هذا ضمنا من حديث الرسول (ص) : ” خير الصدقة ما كان عن ظهر غِني ًوابدأ بمن تعول ”
( رواه البخاري وغيره ) ، وكما يُفهم من نهيه (ص) عن تحميل النفس ما لا تطيق وإضرارها حينما جاءه مَن أراد أن يتصدّق بكل ماله
فقال : ” يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس ” ( رواه ابن حِبّان )
فالأمر إذن ليس فرضا دائما يأثم تاركه ويُثاب فاعله بل هو تقديريّ ، فلكل حدث حديث ، ولكل موقف تصرُّف ، كما يُفهم من تفسير الإمام القرطبي
لقوله تعالي : ” ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ” ( الحشر : 9 ) حيث يقول : ” .. والإمساك لمَن لا يصبر ويتعرّض للمسألة أوْلَيَ
من الإيثار “